اقوا ل الفقهاء فى الطلاق الثلاث بلفظ واحد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى اله وصحبه وبعد…
كان من المستحسن تعريف الطلاق البدع وبيان أنواعه قبل الكلام عن حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد.
قال الكاسانى فى كتابه(بدائع الصناعى ج:4 ص:201) ما نصه: الطلاق البدعة نوعان؛ نوع يرجع الى الوقت ، ونوع يرجع الى العدد. أما الذى يرجع الى الوقت فنوعان ايضا: أحدهما الطلقة الواحدة الرجعية فى حالة الحيض اذا كانت مدخولا بها، والثانى الطلقة الواحدة الرجعية فى ذوات الاقراء فى طهر جامعها فيه. واما الذى يرجع الى العدد فهو ايقاء الثلاث أو الثنتين فى طهر واحد لاجماع فيه، سواء كان على الجمع بأن اوقع الثلاث جملة واحدة او على التفاريق واحدا بعد واحد، بعد ان كان الكل فى طهر واحد…
واما البدعة فى الوقت فيختلف فيها المدخول بها وغير المدخول بها، فيكره ان يطلق المدخول بها فى حالة الحيض ، ولايكره ان يطلق غير المدخول بها فى حالة الحيض لأن الكراهة فى حالة الحيض لمكان تطويل العدة ولا يتحقق ذلك فى غير المدخول به. واما البدعة فى العدد فيستوى فيها المدخول بها وغير المدخول بها.
قال الخليل كوننج فى كتابه الموسوعة الفقهية الميسرة(ج:2 ص:125): ان الطلقة الثلاثة فى طهر واحد تكون بدعة عند الحنفية والمالكية، وعند الشافعية والحنابلة لو طلقها ثلاثا فى طهر واحد لايكون بدعيا.
واما حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد فللفقهاء آراء ثلاثة:
الاول قول الجمهور منهم أئمة المذاهب الاربعة: يقع به ثلاث طلقات روى ذلك عن الخلفاء الراشدين غير ابى بكر، وعن ابن عباس وابى هريرة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن مسعود وانس وهو ايضا قول اكثر أهل العلم من التابعين ولايفرقون بين قبل الدخول وبعده. وقال ابن قدمة فى المغنى(ج:8 ص:244): وكان عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وعمرو بن دينار يقولون من طلق البكر ثلاثاً فهى واحدة.
استدلوا الجمهور القائلين بوقوع ثلاث طلقات بالادلة الآتية:
ان الطلاق البدعى مندرج تحت الايات العامة، منها قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن)الطلاق 65 الى قوله تعالى (وتلك حدود الله، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه) والطلاق المشروع مايعقبه عدة وهو منتف فى ايقاع الثلاث فى العدة، وفيها دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، اذ لو لم يقع لم يكن ظالماً لنفسه بإيقائه لغير العدة، ومن لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثاً مثلا فقد ظلم نفسه. ومنها أية (وللمطلقات متاع بالمعروف) وغيرها من آيات الطلاق تدل ظواهر هذه الايات على ألا فرق بين ايقاع الطلقة الواحدة والثنتين والثلاث.
ومن الادلة الدالة على وقوع ثلاث طلقات حديث ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم وقال: (والله ما ارتُ الا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “والله ما اردتَ الا واحدة؟” قال ركانة والله ما اردتُ الا واحدة فردها اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال الزحيلى فى كتابه الفقه الاسلام وادلته (ج:9 ص:6933) : هذا الحديث من أصرح الادلة وأوضحها على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لقول ركانة واستحلاف النبى صلى الله عليه وسلم له على انه لم يرد بلفظ (البتة) الا واحدة، فهو يدل على انه لو اراد الثلاث لوقعت.
ومن الادلة الدالة على وقوع ثلاث طلقات “الاجماع” و “الآثار”، وممن حكى الاجماع على لزوم الثلاث فى الطلاق بكلمة واحدة ابو بكر الرازى و الباجى وابن العربى وابن رجب. ومن الآثار ما نقل عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم اوقعوا الطلاق الثلاث ثلاثاً، منها ما روى مالك فى الموطأ أن رجلاً جاء الى ابن مسعود فقال: إنى طلقت امرأتى ثمانى تطليقات، فقال ما قيل لك؟ فقال: قيل لى: بانت منك قال: هو مثل ما يقولون، ومنها ما اخرجه ابن ابى شيبة فى مصنفه: (أن رجلا جاء الى عثمان بن عفان فقال: انى طلقت امرأتى مئة فقال: ثلاث تحرمها عليك وسبع وتسعون عدوان) وثبت مثله عن على رضى الله عنه وعن الصحابة الآخرين وعن التابعين ومن بعدهم.
الثانى قول الشيعة الاماميةيقولون بعدم وقوع الطلاق البدعة. نقل ابن قدامة فى كتابه المغنى(ج:8 ص:238) عن ابن المنذر وابن عبد البر ما نصه: ان الطلاق البدع واقع، لم يخالف فى ذلك الا اهل البدع والضلال وحكاه ابو نصر عن ابن علية وهشام بن حكم والشيعة قالوا لا يقع طلاقه.
واستدلالهم كما فى بدائع الصناعى للكسانى(ج:4 ص:206): ان هذا الطلاق منهى عنه فلا يكون مشروعاً، وغير المشروع لا يكون معتبراً فى حق الحكم، ولان الله تعالى جعل لنا ولاية الإيقاع على وجه مخصوص ومن جُعل له ولاية التصرف على وجه لا يملك ايقاعه على غير ذلك الوجه، كالوكيل بالطلاق على وجه السنة، إذا طلقها للبدعة انه لايقع لما قلنا كذا هذا.
القول الثالث انه محرم ولا يلزم منه الا طلقة واحدة،وهو قول الزيدية وبعض الظاهرية وابن اسحاق وابن تيمية وابن قيم.
قال ابن تيمية فى فتواه(ج:33 ص:8-9): وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ويروى عن على وابن مسعود وابن عباس القولان، وهذا القول منقول ايضا عن طائفة من التابعين ومن بعدهم؛ مثل طاووس وخلاس بن عمرو ومحمد بن اسحاق وهو قول داود الظاهرى واكثر اصحابه ويروى ذلك عن ابى جعفر محمد بن على بن الحسين وابنه جعفر بن محمد ولهذا ذهب الى ذلك من ذهب من الشيعة.
وادلت اصحاب هذا القول ما يأتى: ان المشروع فى الطلاق تفريقه مرة بعد مرة لانه قال تعالى(الطلاق مرتان)البقرة 229 مرة بعد مرة، مثّل عليه ابن تيمية فى كتابه مجموعة الفتاوى (ج:33 ص:11) مختصرا :كما اذا قيل للرجل: سبح مرتين او سبح ثلاث مرات أو مائة فلا بد ان يقول: سبحان الله، سبحان الله حتى يستوفى العدد. فلو اراد ان يجمل ذلك فيقول: سبحان الله مرتين أو مائة مرة لم يكن قد سبح الا مرة واحدة. والله تعالى لم يقول: الطلاق طلقتان بل قال (مرتان) فاذا قال لامرأته: انت طالق اثنتين او ثلاثا او عشرا او الفا لم يكن قد طلقها الا مرة واحدة، وقول النبى صلى الله عليه وسلم لام المؤمنين جويرية: (لقد قلت بعدك اربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه ….الى اخ) فمعناه انه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم (ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الارض … الى اخ) ليس المراد انه سبح تسبيحا بقدر ذلك، والا فلو قال المصلى فى صلاته: “سبحان الله عدد خلقه” لم يكن قد سبح الا مرة واحدة، ولما شرع النبى صلى الله عليه وسلم ان يسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ويحمد ثلاثا وثلاثين ويكبر ثلاثا وثلاثين. فلو قال: سبحان الله، والحمد لله، والله اكبر عدد خلقه لم يكن قد سبح الا مرة واحدة.
ومن الادلة حديث ابن عباس الذى فى صحيح مسلم وغيره من السنن والمساند عن طاووس عن ابن عباس انه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم و ابى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحد. فقال عمر: ان الناس قد استعجلوا فى امر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفى رواية لمسلم وغيره عن طاووس: أن ابا الصحباء قال لابن عباس: أتعلم انما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابى بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس نعم.
قال ابن تيمية فى كتابه مجموعة الفتاوى (ج:33 ص:14) مانصه: وقد بين فى غير هذا الموضوع أعذار الائمة المجتهدين رضي الله عنهم الذين ألذموا من اوقع جملة الثلاث بها مثل عمر رضي الله عنه فانه لما رأى الناس قد اكثروا مما حرمه الله عليهم من جملة الثلاث ولا ينتهون عن ذلك الا بعقوبة: رأى عقوبتهم بإلزامها لئلا يفعلوها من نوع التعزير العارض الذى يفعل عند الحاجة. كالأب الصالح اذا امر ابنه بالطلاق لما رآه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه كما قال احمد وغيره، كما امر النبى صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يطيع أباه لما امره أبوه بطلاق امرأته، هو من موارد الاجتهاد، فلما كان الناس اذا لم يلزموا بالثلاث يفعلون المحرم رأى عمر رضي الله عنه إلزامهم بذلك لانهم لم يلزموا طاعة الله ورسوله مع بقاء النكاح…
واجاب الزحيلى فى كتابه الفقه الاسلام وادلته (ج:9 ص:6930) على استدلال ابن تيمية بحديث ابن عباس بقوله: هذا الحديث محمول على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات بان يقول: (انت طالق، انت طالق، انت طالق،) فانه يلزمه واحدة اذا قصد التوكيد، وثلاث اذا قصد تكرير الايقاع، فكان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابى بكر رضي الله عنه على صدقهم وسلامتهم وقصدهم فى الغالب الفضيلة والاختيار لم يظهر فيهم خداع، وكانوا يصدقون فى ارادة التوكيد، فلما رأى عمر رضي الله عنه فى زمانه اموراً ظهرت، واحوالا تغيرت وفشا ايقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث فى صورة التكرير اذ صار الغالب عليهم قصدها وقد اشار اليه بقوله ان الناس قد استعجلوا فى امر كانت لهم فيه اناة.
واستدل ايضا ابن تيمية فى فتاواه(ج:32 ص:15) بالقياس مانصه: وعلى هذا يدل القياس والاعتبار بسائر أصول الشرع فان كل عقد يباح تارة ويحرم تارة كالبيع والنكاح اذا فعل على الوجه المحرم لم يكون لازما نافذا كما يلزم الحلال الذى أباحه الله ورسوله. ولهذا اتفق المسلمون على ان ما حرمه الله من نكاح المحارم ومن النكاح فى العدة ونحو ذلك يقع باطلا غير لازم، وكذلك ماحرمه الله من بيع المحرمات كالخمر والخنـزير والميتة… والطلاق هو مما اباحه الله تارة وحرمه اخرى فاذا فعل على الوجه الذى حرمه الله ورسوله لم يكن لازما نافذاً كما يلزم ما احله الله ورسوله، كما فى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
واجاب الكاسانى فى كتابه بدائع الصنائع (ج:4 ص:207) على استدلال ابن تيمية بالقياس بقوله مانصه: واماقولهم ان غير المشروع لا يكون معتبرا فى حق الحكم فنعم: لكن الطلاق نفسه مشروع عندنا ما فيه حظر، وانما الحظر والحرمة فى غيره وهو ما ذكارنا من الفساد، واذا كان مشروعا فى نفسه جاز ان يكون معتبرا فى حق الحكم وان منع عنه لغيره كالبيع وقت أذان الجمعة والصلاة فى الارض المغصوبة ونحو ذلك.
قال الزحيلى فى الفقه الاسلام وادلته(ج:9 ص:6934-6935) ختاما لهذه المسألة ما نصه: والذى يظهر لى رجهان رأى الجمهور وهو وقوع الطلاق ثلاثا اذا طلق الرجل امرأته دفعة واحدة، لكن اذا رجح الحاكم رأياً ضعيفاً صار هو الحكم الاقوى فان صدر قانون كما هو الشأن فى بعض البلاد العربية بجعل هذا الطلاق واحدة فلا مانع من اعتماده والافتاء به تيسيرا على الناس وصونا للرابطة الزوجية وحماية لمصلحة الاولاد، خصوصا ونحن فى وقت قل فيه الورع والاحتياط وتهاون الناس فى التلفظ بهذه الصيغة من الطلاق وهم يقصدون غالبا التهديد والزجر ويعلمون أن فى الفقه منفذا للحل ومراجعة الزوجة.
نقل ابن عابدين فى حاشيته (ج:4 ص:423) قول البعض ما نصه: وقدثبت عن اكثر الصحابة صريحا بايقاء الثلاث ولم يظهر لهم مخالف – فماذا بعد الحق الا الضلال – وعن هذا قلنا: لو حكم حاكم بانها واحدة لم ينفذ حكمه لانه لايسوغ الاجتهاد فيه فهو خلاف لااختلاف …
اذا سئل هذه المسئلة للخليل كوننج لا يفتى بهذا القول ولكن يحول السائل الى من افتى بهذالقول كالديانة
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
فاتح قلندر
مراجع البحث
حاشية ابن عابدين
بدائع الصناع للكاسانى
المغنى لابن قدامة
الموسوعة الفقهية الدولى
الموسوعة الميسرة للخليل كوننج
الفقه الاسلام وادلته لوهبة الزحيلى
المحلى لابن حزم الاندليسى
مجموعة الفتاوى لابن تيمية
فقه السنة لسيد سابك